الإسلام وعنايته بالمجتمع
لا ريب أن الاسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحاً، ولم يهمل أمر المجتمع في أقل شأن من شؤونه، فانظر : إن أردت زيادة التبصر في ذلك إلى سعة الأعمال الانسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة، وإلى تشعبها إلى أجناسها، وأنواعها، وأصنافها، ثم انظر إلى احصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها، ترى عجباً، ثم أنظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب المجتمع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الانفاذ. ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة .
وأما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئية والمانوية والثنوية، وغيرها، فالأمر فيها أظهر وأجلى. وأما الأمم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام، واجتماع الافراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية، فكان الاجتماع القومي، والوطني والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة، ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتني أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره، وتجعله مورداً للبحث والعمل، حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أغنى إمبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية و كسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثه.
نعم، يوجد فيما ورثوه أبحاث إجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا انها كانت أوراقاً وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلاً ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج، والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.
فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني، ودعى به هذا النوع الى الاعتناء بأمر المجتمع بجعله موضوعاً مستقلاً خارجاً عن زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الاسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين، وقد قال تعالى:
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم) وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا…) – إلى أن قال تعالى – (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب (وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد .
قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم).
وقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وقال: (وتعاونوا على البر والتقوى).
وقال أيضاً: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الاسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنتحدث فيه إن شاء الله تعالى .
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
الصنع والإيجاد أولاً يجعل أجزاءً ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة، فالإنسان مثلاً له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك، وربما لم تأتلف وبقيت على حال التباين والتفرق كالسمع والبصر والذوق والارادة والحركة إلا أنها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الانسان، وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية، كالنطفة مثلاً إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها وتربيتها إنساناً تاماً آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الافعال المادية والروحية، فأفراد الانسان على كثرتها إنسان وهي واحد، وأفعالها كثيرة عدداً واحدة نوعاً وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد، وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر .
وقد اعتبر الاسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية، هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) وقال أيضا: (بعضكم من بعض). وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة اخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود، وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود، ولذلك اعتبر القرآن للأمة وجوداً وأجلاً وكتاباً وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعة ومعصية، فقال تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وقال أيضاً: (كل أمة تدعى إلى كتابها).
وقال: (زينا لك أمة عملهم) (يتلون آيات الله).
وقال: (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب).
وقال أيضاً: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط).
ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء، ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم، كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الأخير في التأريخ النقلي بتبديل الأشخاص أمما، وأول من سنه على ما يقال: أوغست كُمت الفرنسي المتوفى سنة 857 ميلادية .
وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الاشارة اليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد على ان الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معاً، فمهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة، ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها، فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها، كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الإدراك والفكر .
وهذا هو الملاك في اهتمام الاسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الاديان الاُخر ولا في سنن الملل المتمدنة (ولعلك لا تكاد تصدق ذلك)، فإن تربية الاخلاق والغرائز في الفرد وهو الاصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الاخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيراً لا قدر له عن القياس والتقدير .
فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والانفاق وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع، وحافظ على ذلك مضافاً إلى قوى الحكومة الاسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الاسلامي ـ وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك ـ هي السعادة الحقيقية، والقرب والمنزلة عند الله، وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الانسان وسره ـ فضلاً عما في ظاهره ـ وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو الذي ذكرنا أن الاسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السُنن والطرائق .